منذ عقدين، لم تتكوّن شراكات ونضالات تجمع اليهود والعرب معًا كالتي شهدناها في العام الأخير. من أجل كسب القوة وإثباتها على أرض الواقع، هناك حاجة لاتّحادٍ واسعٍ في صفوف الأقلية القومية، ولكن من أجل التأثير، هناك حاجة لشراكة يهودية-عربية تصنع تغييرًا عميقًا وجذريًا في أواسط شعب الأغلبية

في الانتخابات الأولى للكنيست عام ١٩٤٩، صوّت ٨٩% من المواطنين الفلسطينيين الذين بقوا على أراضيهم داخل إسرائيل لأحزاب يهودية وصهيونية. فقط ١١% منهم صوّتوا للحزب الشيوعي، اليهودي-العربي في حينه. استمر الحال على هذا النحو حتى أواخر السبعينيات تقريبًا. في عام ١٩٧٧، بعد أحداث يوم الأرض في ١٩٧٦ وتشكيل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (الحزب الذي تكوّن من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الفهود السّود وجماعات أخرى يهودية-عربية)، صوّت ٥١% من الناخبين العرب لصالح هذه القائمة، ومنذ ذلك الحين كُسِرت الغالبية الداعمة للأحزاب اليهودية.

في الانتخابات الأخيرة للكنيست ال-٢٣ حصلت القائمة المشتركة على ٨٧.٦% من أصوات الفلسطينيين في إسرائيل، وتمكنت من إدخال ١٥ نائبة ونائبًا عنها للكنيست - وبذلك حُطِّم الرقم القياسي منذ قيام الدولة. بالمقابل، حصلت الأحزاب اليهودية على أقلّ نسبة تصويت من هذا الجمهور على الإطلاق. هذه الأحداث التاريخية خلقت وضعًا جديدًا في ظلّه ملكت الجماهير العربية قوةً لم تملك مثلها بالسابق قَط. المهمة الماثلة أمامنا الآن هي المضيّ قدمًا بهذه السيرورة، وتحويل القوة لتأثير.

قراءة عميقة لمعطيات الدورات الانتخابية الثلاث الأخيرة

بلغت نسبة تصويت المواطنين الفلسطينيين لانتخابات الكنيست ال-٢١ في نيسان-أبريل ٢٠١٩ - ٤٧.٨%، وهي الأدنى منذ تأسيس الدولة. في انتخابات أيلول-سبتمبر ٢٠١٩ ارتفعت النسبة ل-٥٨.٩%، وذلك بعد إعادة بناء القائمة المشتركة. في الانتخابات الأخيرة، وصلت نسبة التصويت بالمجتمع الفلسطيني إلى ٦٤.٨%. تشير هذه المعطيات إلى ارتفاعٍ تدريجيٍّ بكثافة التصويت بين الناخبين العرب على مدار الدورات الانتخابية الثلاث - الأمر الذي يدلّ على حالة من التيقّظ والشغف العميق للتأثير، أتت على ضوء موجة العنصرية برعاية حكومة اليمين، والتي تجلّت بقانون القومية العنصري وبصفقة القرن التي أبرمها نتنياهو وترامب بهدف ضمّ الأراضي، الاحتلال، والترحيل القسري.

لم تكن لتمتاز الصحوة تلك بهذه الحدة لولا الأمل بإحداث تغيير حقيقيّ في الحكم، الأمر الذي ظهر بوضوح بالتوصية على غانتس لتركيب الحكومة. إلّا أن غانتس قرر ضرب هذا الأمل عرض الحائط وتحويله لخيبة كبيرة.

لكنّ ارتفاع نسبة التصويت في المجتمع العربي هو ليس المعطى الوحيد الذي يتوجب علينا ملاحظته والتفكّر به.

معطى آخر لا يقلّ أهمية هو تراجع نسبة الناخبين العرب الداعمين للأحزاب اليهودية. على سبيل المثال، أعلى نسبة تصويت من بين المواطنين الفلسطينيين سُجِلت في المثلث ووادي عارة. لا شكّ بأن لصفقة الترانسفير التي بادر إليها نتنياهو وترامب دورًا بهذا المعطى، ولكن ثمّة دورٍ لعبته كذلك خيبة الأمل من تعامل الأحزاب اليهودية مع العرب، وخصوصًا من عدم إدراج مرشحٍ عربيّ في موقعٍ معقول بقائمة حزب العمل-غيشر-ميرتس. هذا وقد ارتفعت كذلك نسبة تصويت العرب-البدو في شمالي البلاد بين أيلول-سبتمبر ونيسان-أبريل، حيث صوّت أكثر من ٨٤% من مجمل الناخبين هناك للقائمة المشتركة، رغم أن هذه الفئة لطالما اعتُبِرت داعمةً لأحزاب مثل حزب العمل، ميرتس وشاس.

معطى آخر مهم يتمثل بتصاعد الدعم للقائمة المشتركة في القرى الدرزية أيضًا، كما وبدعم غالبية الناخبين هناك لحزب كاحول-لافان (أزرق-أبيض) عوضًا عن دعمهم المعهود لأحزاب السلطة وعلى رأسها الليكود. هذا المعطى، كذلك، يشير إلى أزمة ثقة بين الجماهير العربية برمتها وبين النظام الحاكم (والتي ازدادت حدةً بالأساس بعد سنّ قانون القومية)، وإلى نيّة صادقة وعميقة لصنع التغيير.

ميزات الأقلية الفلسطينية

الأقلية الفلسطينية في إسرائيل هي أقلية قومية أصلانية، لم تولد كأقلية، وهي جزء من الشعب الفلسطيني الذي شكّل أغلبية سكان البلاد لغاية ١٩٤٨. من المهم أن نتذكر هذه الميزة وندركها جيدًا، ليس فقط من دوافع تاريخية، إنما من دوافع سياسية - إذ أنه دون إدراك ذلك لن يكون ممكنًا بناء مستقبل مشترك لكل شعوب المنطقة.

منذ عام ١٩٤٨ عانت الأقلية الفلسطينية في إسرائيل من القمع، التمييز بكلّ مجالات الحياة، والاستضعاف المتعمد سياسيًا واقتصاديًا. مع ذلك، فهي أقلية ديمقراطية ناشطة، ترفض الرضوخ للقمع الذي تواجهه. في أيامنا هذه أيضًا، الكثر من اليهود يعرفون القليل فقط عن توجهات وميول المجتمع العربي وعن الخطاب السياسي الرائج به. في داخله، هناك تيارات تدعو لمقاطعة انتخابات الكنيست، وثمة فجوات أيديولوجية كذلك داخل القائمة المشتركة ما بين أحزابها المختلفة. أسئلة عديدة تتعلق بالتعاون مع المجتمع اليهودي (فمثلًا، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة هي الحزب الوحيد المشترك الذي يرشّح عربًا ويهودًا على حد سواء)، بحقوق النساء، بالتعامل مع مجتمع الميم، بالزواج المدني أو بالعلاقة ما بين الدين والدولة - هي جميعها أسئلة لا تزال شائكة وعالقة داخل المجتمع العربي. عبر هذا الخطاب السياسي حدود المجتمع العربي، حتى بات حاضرًا أيضًا من خلال مبادرات تعاونية مشتركة للعرب واليهود، التي تهدف لتعزيز التأثير ولإحداث تغيير عميق في القضايا الأهمّ بالنسبة للمجتمع العربي ولكلّ من يعيش هنا: من أجل تحقيق السلام العادل، من أجل المساواة، من أجل الديمقراطية ومن أجل العدالة الاجتماعية.

لطالما أثبتت الأقلية الفلسطينية أنها مهتمّة وراغبة بالعيش المشترك، بالانخراط بالاقتصاد الإسرائيلي وبالمشاركة باللعبة السياسية، على أساس مبدأ المساواة التامة. لذا فليس مستهجنًا كون إحدى الإستراتيجيات الأساسية التي يعتمدها المجتمع العربي هي العمل على جبهات عديدة وواسعة، عربية-يهودية. هذا الجبهة الواسعة تتمثل كذلك في مطالب هذه الأقلية: وضع حد للعنصرية والفاشية في إسرائيل، النضال من أجل السلام العادل المرتكز على حلّ الدولتين، والعدالة والمساواة للجميع - عرب ويهود على حدٍ سواء. تثبت الأقلية الفلسطينية عبر نضالاتها، أنها ترى بهذه البلاد مكانًا يخصّنا جميعًا. توصية ال-١٥ نائب ونائبة عن القائمة المشتركة على غانتس - رغم إدراكهم لإمكانية انتهاء هذه الخطوة برفضٍ وخيبة - كانت التعبير الأبرز للرغبة الحقيقية بالعيش المشترك.

من القوة للتأثير

حققت الأقلية الفلسطينية العديد من الإنجازات بالدورات الانتخابية الثلاث الأخيرة، فقد نجحت باستعادة الثقة الداخلية بقدرتها على العمل وبكسب الكثير من القوة. هذه القوة تم اكتسابها بفضل توحيد القوى داخل المجتمع العربي، ولكن إن أردنا أيضًا ترجمة القوة لتأثير - يتوجب بناء معسكر ديمقراطي حقيقي، عربي-يهودي، والنضال معًا من أجل أهدافه المشتركة.

في الأشهر الأخيرة، ظهرت عدة مؤشرات إيجابية تبشّر خيرًا بشأن تحقيق هذه الغاية. المزيد والمزيد من القوى اليهودية لم تعد تُذعَر من فكرة الشراكة مع الجماهير العربية، تعترف بشرعيتها هي وممثليها، وترغب بالعمل معها. أيضًا داخل المجتمع العربي، المزيد والمزيد من القوى التي لم تؤمن بالسابق بأهمية النضال المشترك استنتجت أن هذا هو طريق التغيير.نرى ذلك في الكنيست، ولكنّ هذا التغيير يبدأ بالحقيقة من الميدان، من الشارع. حراك شعبي يساري مثل "نقف معًا" هو مثال خلّاق بطريقة بنائه المشتركة، بسُبل نشاطه وبنظريته للتغيير، والتي تعكس جميعها العصر الجديد الذي نتّجه نحوه بالخطاب السياسي والجماهيري في إسرائيل.

في كلا شعبيّ هذه البلاد هناك أغلبية ترغب بالعيش المشترك، بالتكافل والاحترام المتبادل. من أجل مستقبل أبنائنا ومستقبل أبناء كل شعوب المنطقة - علينا متابعة عملنا هذا.