في واقعٍ يبدو وكأنه مفقودًا وأحيانًا مسدود، يعرض داني فيلك ودوف حنين ما يمكن فعله وكيف ينبغي القيام بذلك. أجزاء مختارة من كتابهما "ما العمل الآن"

ترجمة: سميح غنادري

لشراء الكتاب بسعر مخفّض اضغطوا على الرابط وادخلوا الرقم5221 

مقدّمة

إشعال النور في الأيام المظلمة

هذا كتاب متفائل موجّه للمتشائمين أيضًا.

تفاؤل الكتاب ليس تفاؤلًا ساذجًا. نحن لا نقصد جنة عدن للحمقى السخفاء، ونعي كليًا درامية الواقع في القرن الحادي والعشرين وأخطارها العديدة، وأنه تهبّ رياح سيئة أثناء كتابة هذا الكتاب.

السؤال الأول الذي يجب أن نواجهه هو: هل بالإمكان الحديث عن تغيير هام للأفضل في العالم الاجتماعي الذي تبرز فيه بالذات تغييرات مقلقة نحو الأسوأ؟ نعتقد أن هذا ممكن. هذا هو الادّعاء المركزي في كتابنا.

لا نتجاهل الأخطار الموجودة، ولا نقلّل أيضًا من عظمتها، ولكننا ندّعي وجود فتحات ومنافذ نحو الأفضل إلى جانب وجود الأخطار والتهديدات الكامنة. سيكون بالإمكان إحداث التغيير إذا ما أتقنا تحليل الأوضاع وأشرنا، من خلال هذا التحليل، إلى استراتيجية للتغيير. وبناءً عليه، هدفنا هنا ليس فقط التخطيط لرؤيا مبنية على التغيير الإيجابي، وإنما أيضًا الإشارة إلى طريق وبرنامج عمل بهدف دفعها وتقدّمها عمليًا.

دراما طالبي اللجوء

من الصعب التّأشير بالأصبع على اللحظة التي بدأت فيها مسيرة التغيير. ولكن تحديدًا، وفي الحالة التي سأتطرّق اليها، فهذه اللحظة ملموسة جدًّا، ويمكننا معرفة وقت حدوث التغيير. حدث هذا في يوم صاف في الخريف في أواخر سنة 2017 في مقهى الحارة الموجود في حديقة حيّ شابيرا. انضمّت النّاشطة الاجتماعيّة شوله كيشت إلى طاولةٍ، جلستُ بجانبها مع آله يدعيا، مديرة المجموعة المهنيّة التي تعمل معي والنّاشطة في عدّة قضايا نضاليّة؛ سياسيّة واجتماعيّة. تعرّفتُ على شوله من خلال قضايا نضاليّة سابقة من بينها دورها القيادي في الحراك ضد المحطة المركزية الجديدة للمواصلات في حيّ نفيه شئنان، لكوْن الحي مكرهة اجتماعية وبيئية كبيرة هدمت نسيج الحي وحوّلت مساحة الأحياء حول المحطة إلى منطقة كارثة. وترأسّت شوله في السنوات الأخيرة جمعيّة "أحوتي" (أختي) التي تجمع وتوحّد نساء شرقيّات بغالبيّتهن من أحياء في مناطق مستضعفة يكافحن من أجل مستقبلهن ومستقبل تلك الأحياء.

عُقد اجتماع للتفكير معًا بما يتوجّب فعله إزاء القرار الذي اتّخذتهُ الحكومة في تلك الأيام بالطرد إلى إفريقيا عشرات آلاف طالبي اللجوء من الإرتريين والسّودانيين الذين يتركّز وجودهم في أحياء جنوب تل أبيب وفي أحياء مستضعفة أخرى. طرحت شوله اقتراحًا للتداول بشأنه، الّذي بإمكانه أن يغيّر طابع النضال فيما يخصّ الموضوع.

وكان النضال من أجل طالبي اللجوء في إسرائيل قد بدأ قبل عشر سنوات، وطُرحَ على الصعيد البرلماني منذ أيار 2008 .اقترحت حينها الحكومة برئاسة إيهود أولمرت وبمشاركة حزب العمل اقتراح قانون على الكنيست للتصويت عليه وسنّه، يطالب بفرض السّجن لمدة سبع سنوات – (وفي حالات معيّنة لمدة عشرين سنة)- على كل "متسلّل" إلى إسرائيل. وكذلك على كل مواطن إسرائيلي يقدّم مساعدة لأي "متسلّل" في زمن مكوثه في إسرائيل.

تمّ التّصويت على هذا الاقتراح في الكنيست، على القراءة الأولى منهُ، في ساعات المساء. للأسف، كما يحدث في حالات عديدة، بالكاد يتواجد أعضاء الكنيست في قاعة الجلسات في أثناء بحث ومناقشة القانون. صُعِقتُ عندما قرأت اقتراح نص القانون. والعقوبات التي جرى اقتراحها كانت متطرّفة ولئيمة بشكل خاص. كما أنهّا وبالأخصّ تخصّ بالذّكر أشخاص عبروا الحدود هربًا من مخاطر قدّ تهدّد حياتهم، إضافّة لمعاقبة أصحاب الضّمير الذين يقدمون مساعدات لهم.

مُعارضتي للقانون المُقترح كانت فوريّة ومباشرة. ولكن للأسف، كنتُ الوحيد الذي صوّت "ضد" من بين كلّ أعضاء الكنيست المشاركين في النّقاش ذاك المساء. عبَرَ الاقتراح القراءة الأولى بتأييد جارف من غالبيّة مطلقة لأعضاء الكنيست الذين حضروا الجلسة.

توقّف مسار إتمام إقرار القانون بعد ذلك بسبب تطوّر سياسي على صعيد آخر وهو التعقيدات والورطات الجنائيّة الّتي وقع بها أولمرت التي أدت إلى إسقاط الحكومة بعد ذلك. جرى حلّ الكنيست والإعلان عن انتخابات جديدة. ولكن لسوء الحظّ، لم تكن هذه هي النّهاية لاقتراح هذا القانون.

جرى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات، وكانت هذه المرة برئاسة بنيامين نتنياهو. طَرِح القانون من جديد كان أحد الأعمال الأولى للكنيست، وذلك بهدف مواصلته من حيث توقّفَ. وللمرة الثّانية كنتُ الوحيد الذي عارض القانون. أذكر جيدًا نتائج التصويت: 59 صوت "مع" مقابل صوت واحد "ضدّ". دعمَ القانون ما لا يقلّ عن 59 عضو كنيست. كان هذا بدون شك منظور سيّئ لكيفيّة إدارة وتوزيع القوى في الصّراع السّياسي.

عندما يكون توازن القوى صعب وغير متساوٍ إلى هذا الحدّ، يجب توسيع حيّز النّضال. نظّمنا محادثات مع أخصائيين قضائيّين ومع صحفيّين وشخصيّات تعمل في وسائل الإعلام، وأيضًا مع مثقّفين ومفكّرين. تزعزع الأشخاص الذين تحدثنا معهم عمّا جرى في الكنيست. وجّه هؤلاء انتقادات لاذعة لهذا القانون ولتأييد أعضاء الكنيست له. كذلك وانتشرت عرائض احتجاج. وجهرَ رجال الضمير والأخلاق بأصواتهم وبدأت تنهض حركة احتجاج جماهيريّة.

وصلت الأمور إلى ذروتها عندما استلمنا نحن المائة والعشرين عضوّ كنيست رسالة أرسلها لنا أفنير شلو رئيس مؤسّسة "يد فَشِمْ" – (المؤسّسة لتأريخ ولذكرى الكارثة النازيّة بحق اليهود ومقاومتها). كتبَ في رسالته أنه قرأ بأسف وألم وقلق كبير نَصّ اقتراح القانون الذي تبحثه الكنيست. وذكر التّاريخ اليهودي في القرن العشرين، عندما هربنا لإنقاذ أنفسنا من أنظمة معادية للساميّة. وكيف لُمنا وما زلنا نلوم تلك الدول التي أغلقت أبوابها في وجوهنا. كما وقمنا بتسمية كل الذين ساعدونا "حسيدي أمّوت هعولام" – (الورعون الأتقياء والمشايعون من أمم العالم). يُنهي شلو رسالته المؤثرة بالسّؤال: "كيف تلجأ دولة يميّز "الإيتوس" – (المميّزات الإيجابية للشعب)- الذي بلْورها وأقامها لاجئون ومن أجل اللاجئين الذين وصلوا إلى هذا المكان الذي يتم فيه اليوم طرح ودعم قوانين تعاقِب بتطرّف كل مَن يساعد طالبي اللجوء.

أحدثَ هذا التوجّه تغييرًا دراميّاً. وكانت تلك المرّة الأولى في تاريخ البرلمان الإسرائيليّ، حسب ما أعرف، التي تُرسل الحكومة فيها رسالة للكنيست تُبلّغ فيها بصورة رسمية انها تتنازل عن دفع وتقديم اقتراح القانون. كان هذا انتصارً صغيرًا في مسيرة طويلة، بدأت يومها. كان لذلك الانتصار أهميّة عمليّة واحدة ذات تأثير، وهي: تمّ إلغاء منع المساعدة لطالبي اللجوء.

ما هي القوّة الخاصة الموجودة في توجّه رئيس "يد فَشِم"؟ الجواب واضح حسب رأيي، فيما وردَ في الفصل السابق. كانت الرسالة الّتي بعثها، تصرّفًا للتدخّل والمشاركة في حقل الصّراع على الهيمنة. قصة الكارثة والدروس التي يجب التّعلّم منها هي جزء هام من مشروع الهيمنة في المجتمع الإسرائيلي، و"يَدْ فَشِم" مؤسسة هامة ذات تأثير في هذا المجال. لذا لم يكن بالإمكان تجاهل موقف رئيس "يَدْ فَشِم"، على الأقل في تلك الأيام.

نجح التّدخل في حقل النّضال المُهيمن بإحداث التّغيير. يتوجّب الذّكر، أنّ مَنِع قانون اعتقال طالبي اللجوء والذين  لصالحهم، كان محطّة أولى فقط في مسيرة طويلة. لأنه، وبعد إلغاء اقتراح القانون حاولت الحكومة تمرير قانون آخر يفرض الاعتقال الطويل والمتواصل لطالبي اللجوء بشكل وصورة أخرى. لم تنجح أيضًا هذه المرّة.

استمرّ خطابي ضد القانون الجديد في جلسة الكنيست في أثناء القراءة الثانية والثالثة لساعات. كان ذاك الخطاب أحد الخطابات الأطول بين كل خطاباتي في حياتي. لم يكن هذا تعطيلًا واضاعة للوقت، لأني لم أضيّع الوقت من أجل قراءة نصوص لا تمت بصلة للموضوع. بل قدّمت تفسيرات وتبريرات بصورة مدروسة ومخطّطة ومنظّمة بخصوص الأسباب التي تستدعي معارضة هذا القانون. وللأسف، لم تقتنع غالبية الائتلاف في خطابي والتّفسيرات الّتي قدّمتها. لكن في هذه المرّة، كنّا مجموعة كبيرة من أعضاء كنيست الّذين عارضوا مبادرة الحكومة.

تمّ إقرار القانون في الكنيست بعد انتهاء المداولات بشأنه. لكن محكمة العدل العليا وبقرار من غالبيّة القضاة قررّت الغاءه. لم ينه هذا القرار المشكلة، وواصلت الحكومة مرّة بعد الأخرى تقديم قوانين وإجراءات صارمة لمحاربة طالبي اللجوء. كانت إحدى الإجراءات إقامة منشأة اعتقال للمتسلّلين "حولوت"، الّذي وصفتهُ الحكومة كحلًّا سحريّ. فسّرتُ في الكنيست غياب الأخلاقيات الكامن في حل كهذا، وما لا يقل عنه أهمية نقص المنطق فيه. لأنه إذا ما كان الهدف من إقامة المنشأة هو ردع طالبي اللجوء من الوصول إلى إسرائيل يجب أن تكون المنشأة مكانًا أكثر رعبًا وفظاعة من المخاطر المهدّدة لأرواح الناس في درفور في السودان أو تحت سلطة الديكتاتورية العسكرية الإرتريّة حتى يمتنعوا اللجوء إلى البلاد. فهل بالإمكان بناء منشأة هنا في إسرائيل مرعبة إلى هذا الحد؟ معارضتي لم تساعد، وأقامت الحكومة معسكر اعتقال "حولوت" بتوظيف ماليّ كبير.

ادّعينا على طول الخطّ أن الحل موجودًا في اتّجاه آخر كليًا. وأنه يجب التعامل مع طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى إسرائيل بصفتهم بشرًا، وفحص طلبات لجوئهم بعمق، واعطاء كل مَنْ يستحق اعتباره لاجئًا حقّه. يحظى غالبية الأشخاص الذين يصلون إلى الدّول الغربية من إرتريا ومنطقة درفور في السودان بالاعتراف بهم كلاجئين. بينما في إسرائيل فحص طلبات اللجوء التي جرى تقديمها ليس فعّالًا وغير سليم. ومن بين آلاف طلبات اللجوء التي جرى تقديمها للسلطات في إسرائيل، تمّت فقط الموافقة على بضع طلبات معدودة.

عدا عن ذلك، ما دام لا يستطيع طالبو اللجوء العودة إلى بلادهم يجب السّماح لهم بالحياة بكرامة. ولذا يجب السماح لهم بالعمل حتى يوفّروا مقومّات معيشتهم. وإن لم يحدث هذا سينزلقون نحو عالم الجريمة. تحدّثنا بهذا الخصوص مع كبار الأشخاص في السلطة. وفرحتُ عندما أبدى يوحنان دنينو، مدير عام الشّرطة في حينه، موافقته بإعطاء تصاريح عمل لطالبي اللجوء في البلاد على عكس موقف الحكومة.

اقترحنا أيضًا تقديم حماية اجتماعيّة أساسيّة لطالبي اللجوء، أوّلًا وقبل كل شيء حلولًا صحيّة. وفسّرنا غياب المنطق في التعامل الغير منهجيّ وفق خطة بخصوص الموضوع. وقلنا أنّ عدم توفير عناية صحية جماهيرية ستزيد الأمراض وانتشارها، حيث بإمكان الأمور أن تنزلق عندها إلى توفير علاج مركّب ومكلف في المستشفيّات. بما أن المستشفيات في إسرائيل ملزمة باستقبال كل مَن يصلها طالبًا العلاج ستضطر الدولة عندها إلى تحمّل التكاليف. كلّ محاولات منظمات حقوق الإنسان وأعضاء الكنيست الذين تجنّدوا للموضوع لإعطاء جواب للاحتياجات الطبيّة الملحّة لطالبي اللجوء اصطدمت بحائط ضخم من الرفض العنيد من قبل الحكومة.

جرت نضالات هامّة ومؤثرة على مدى سنوات بخصوص هذا الموضوع. برزت فيها الاحتجاجات الجماهيريّة لطالبي اللجوء أنفسهم، بما فيها حمْلة انطلقت في فصل الشتاء من معسكر الاعتقال في النقب إلى أورشليم التي تساقط خلالها الثلج، وحمْلة الآلاف الصامتة والكبيرة جدًا في ساحة رابين في تل أبيب. ومرّة بعد أخرى تجنّد في تلك الحملات إسرائيليون من ذوي الضمير في فعاليات لصالح طالبي اللجوء.

تركت فينا سنوات النضال تلك مشاعرًا مختلطة وليست سهلة بالمرّة. صحيح أننا منعنا استمرار وتطبيق بعض الأمور السيئة والمتطرفة. ولكن لم نستطع حقًا حلّ الضّائقة الأساسيّة لطالبي اللجوء ولأحياء جنوب تل أبيب، تلك الأحياء الفقيرة التي إليها جرى نفي طالبي اللجوء. وللنجاح في القيام بهذا، كان يجب تغيير المعادلة السياسيّة الأساسية التي كانت أساس هذا الموضوع.

نضجَ عندي الفهم بأنه من المطلوب تغيير المعادلة السياسيّة في مرحلة متقدمة نسبيًا من النضال. تعرّفت على هذه المشاكل عن قرب في سنة 2008، عندما تجوّلتُ في أحياء جنوب تل أبيب في إطار حملة الانتخابات المحلية (سأتحدث عنها فيما بعد). شاهدتُ يومها ضائقة السّكان القدامى في تلك الأحياء الذين جرى إهمالهم والتمييز ضدهم على مدى سنوات. والآن هم مضطرّون لاستيعاب آلاف الأشخاص الفقراء الجدد من طالبي اللجوء الذين لا يملكون شيئًا.

فهمتُ يومها أننا لن ننجح في الكفاح من أجل طالبي اللجوء ما دامت المعادلة، احد أطرافها حقوق الإنسان لمجموعة صغيرة، هربت إلى البلاد من دول أخرى. ولكن، من الجهة الثانية هي آلام وضائقة أحياء شعبّية واسعة في المجتمع الإسرائيلي. الطّرفان في هذه المعادلة حقيقيان وصادقان، فيما المعادلة التي تجمعهما كاذبة. بالرّغم من هذا، بنى اليمين حملة سياسيّة ناجحة، اعتمادً على هذه المعادلة، وليس فقط في إسرائيل، بل وفي دول عديدة أخرى. نجح اليمين، كونه وضعَ "الأقلية الأجنبية" سويّة مع "النخبة الليبرالية الجميلة النفوس" التي بدورها تدافع عن هذه الأقلية، وبالمقابل الشّعب من جهة أخرى. عندما تكون المعادلة كهذه، يكون انتصار اليمين مضمونًا.

حاولتُ على مدى سنوات فكفكة هذه المعادلة، بدون نجاح حقيقي. تحدّثتُ مع ممثّلي منظمات حقوق الإنسان الذين تجنّدوا لمساعدة طالبي اللجوء. والتقيتُ بممثلي مجموعات اللاجئين؛ هؤلاء الذين قادوا النّضالات المؤثرة التي ذكرتها سابقًا. تكلّمتُ مع نشطاء بارزين من جنوب تل أبيب. لكن كل هذه الجهود لم تنجح في إنتاج موقف آخر يكسر المعادلة. وهكذا خسرنا مرّة بعد الأخرى.

نحن، والآن في خريف سنة 2017، نجلس حول طاولة في مقهى حي شابيرا. كان من الواضح لنا أنه إذا ما خسرنا مرة أخرى، ستجري هنا عملية طرد ضخمة لطالبي اللجوء. ستؤدي عمليّة الطرد إلى خراب اجتماعي وإلى انتاج مشهد مليء بالكراهيّة في جنوب تل أبيب، الذّي سيتسرّب ويروّع إسرائيل كلها.

اقترحَت شوله كيشت فكرة بسيطة، هي القيام بشنّ حملة هجوم على المشكلة من الجهة المعاكسة، أي من جهة جنوب تل أبيب، الّتي يعاني كل سكّانه من الضائقة، وموجودون تحت التهديد بالطرد. ليس فقط المطالبون باللجوء هم المهددون بالطرد وإنما أيضًا عموم السكان القدامى في أحياء الجنوب – هذا ما قالته شوله.

وجرى التعبير عن هذا في الأساس في الأحياء المستضعفة، التي يكافح سكانها القدامى منذ زمن ضد سلب بيوتهم وطردهم لصالح مشاريع عقارات. طرد طالبي اللجوء من الأحياء هو فقط البداية لعمليّة كبرى لإجراء تغيير في تلك الأحياء – هذا ما قالته شوله. وهذا مسار تحسين سيُبعد إلى الخارج غالبيّة السكان القدامى لصالح مَن يقدر على امتلاك العقارات في مركز "المتروبولين" بنقوده الكثيرة.

وانطلاقًا من وجهة النظر هذه، قالت شوله أنه توجد عمليًا مصلحة مشتركة حقيقية، بين طالبين اللجوء وبين السّكان القدامى في أحياء الجنوب. وعلى قاعدة هذه المشاركة في المصلحة يجب الخروج للنضال تحت عنوان :"جنوب تل أبيب ضد الطرد".

اعتمد هذا النضال على التّواصل والدّمج الحقيقي منذ اللحظة الأولى، وليس على الاستعمال الآلي والمستهتر بسكان جنوب تل أبيب لصالح قضية طالبي اللجوء فقط. هذه هي القاعدة والمبدأ لكل المواضيع المشتركة الكبرى الأخرى. مثلًا النضال ضدّ المحطة المركزية، التي أقيمت في قلب منطقة سكنية وهدمت حياة الناس القاطنين في المنطقة. وكذلك الأمر بخصوص إخلاء السكان القدامى الشرقيين بغالبيتهم من بيوتهم في الأحياء الفقيرة في المدينة، خاصّة في جنوب تل أبيب، لصالح المبادرين لمشاريع عقارات ذات قيمة عالية.

تحدّثنا على الصعيد التّطبيقي، عن نشر لافتات على شرفات البيوت مكتوب عليها "جنوب تل أبيب ضد الطرد"، وتعليقها في الأحياء الجنوبية. كان الهدف الأوّلي تجنيد مجموعة كبيرة من الأشخاص الّذين يوافقون على تعليقها على شرفات ونوافذ بيوتهم في شوارع الأحياء. وذلك لغرس الثقة بالمشروع لدى الأشخاص الآخرين ولتوسيع دائرة المؤيدين. أخذت شوله على عاتقها إعداد القائمة البدائية للأشخاص الذين يوافقون على تعليق اللافتات على بيوتهم، وهم من بين النّاس الذين كانت على تواصل معهم منذ سنوات.

الدّعوة الأولى التي وصلت من "جنوب تل أبيب ضد الطرد" إلى مكاتب مؤسسة "أحوتي" لعقد اجتماع هناك والانقسام إلى مجموعات من أجل توزيع اللافتات لتعليقها على الشرفات في الحي... نجحت جدًا. مئات الأشخاص وصلوا إلى هناك في تلك الليلة، وتطوّر الوضع إلى حدث مؤثر ووقفة عفويّة مشتركة لطالبي اللجوء وسكان الحيّ في مواجهة قلّة من اليمين المتطرف أتت للإزعاج والتشويش. جرى سرقة لافتات الشّرفات خلال دقائق معدودة. وساهم في إخراج هذا الحدث المركّب نشطاء حركة "نقف معًا"، الأمر الذي سنتطرق له أيضًا في مواد تالية في هذا الكتاب. انتشرت العشرات من المجموعات لتعليق اللافتات في شوارع جنوب تل أبيب وهي تحمل قوائم لعناوين وأسماء وافقت على تعليق اللافتات. لقد غيّروا في ليلة واحدة المشهد الجماهيري لأجزاء كبيرة من منطقة الجنوب.

أقامت حركة "نقف معًا" خلال ذاك الشهر حدثًا كبيرًا لتجنيد نشطاء عديدين في تل أبيب بمشاركة مئات الأشخاص الذين التزموا بتقديم المساعدة للحملة في أحياء المنطقة. وقام قسم من مجموعات العمل التي تشكلت في ذاك المساء بمساعدة الحملة في منطقة جنوب تل أبيب. وركّز قسم آخر على جَمِع توقيعات سكان شمال تل أبيب على عرائض تطالب باستيعاب طالبي اللجوء في أحيائهم، وبتخصيص ميزانيّة من بلدية تل أبيب لإصلاح وأعادة بناء أحياء الجنوب. أدّت هذه المشاركة إلى تنظيم مظاهرة مثيرة للانطباع ضد الطرد جرت بتاريخ 24 شباط 2018 في جنوب تل أبيب في شارع ليفينسكي بالقرب من محطة المواصلات المركزية الجديدة.

الاختيار بتنظيم المظاهرات بالذات هنا، وليس في المكان الطبيعي للمظاهرات الكبرى في تل أبيب – في ساحة رابين – كان جزء من الادراك أن المعركة ستُحسم في جنوب تل أبيب. وكان من الواضح أن السلطة معنيّة جدًا بمواصلة شحذ خطوط مخطط الخلاف السياسي بناءً على المبنى القديم والإشكالي؛ "شعب إسرائيل" ضد "الغرباء والنخبة التي تدعمهم".

كانت المظاهرة في ليفينسكي حدثًا خاصًا من نوعه. امتلأ الشارع وأيضًا الشوارع القريبة منه بالنّاس من سكان الأحياء وطالبي اللجوء، وإلى جانبهم جمهور الشباب الذي تجنّد للنضال من كل أنحاء البلاد. نصّ الإعلان الكبير الذي على المنصّة على أن :"جنوب تل أبيب ضد الطرد". الكلمات المركزيّة في المهرجان كانت من السكان القدامى في تل أبيب، وتكلّمن بتأثر أيضًا عن جيرانهم طالبي اللجوء. ولكن أيضًا عن الضوائق الصعبة والقاسية للأحياء التي تهملها الحكومة دومًا وبمثابرة على طوال السنوات. تقاسم المنصة معًا، طالبات وطالبو اللجوء.

كانت هذه مظاهرة قوّة ليس بالإمكان تجاهلها. ومن غير الممكن أيضًا تجاهل مظاهرة اليمين المضادة التي نظّمها الليكود، البيت اليهودي، يسرائيل بيتينو وحركة إم ترتسو، سوية مع نشطاء اليمين في جنوب تل أبيب. كانت تلك مظاهرة جنّدت فقط عشرات المشاركين. جرى تلوين المنطقة والحيّز الجماهيري لجنوب تل أبيب كليّاً بشعارات معارضة للطرد، فرض النشر والتّحدث عن المظاهرة في تقارير وسائل الإعلام.

وزراء وأعضاء كنيست من أحزاب اليمين كانوا قد أسرعوا في الماضي بالهجوم على مظاهرات سابقة دعمت طالبي اللجوء وعلى مَنْ قام بتنظيمها... ولكن لم يعبّروا عن ذلك بعد المظاهرة في ليفينسكي. لقد شعروا سياسيّا أنهم سيخسرون في هذه المواجهة أكثر مما سيربحون منها.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ نضال "جنوب تل أبيب ضد الطرد" جرت إدارته بصفته جزءًا من الحملة الجماهيرية العامة على الرأي العام. انضمّت هذه المرّة لمنظمات مساعدة اللاجئين وتجنّدت بكامل قوّتها مبادرة "نوقف الطرد" التي بدأت نشاطها في الجامعات في خريف 2017، رأسًا بعد قرار الحكومة بطرد طالبي اللجوء. قامت حركة "نوقف الطرد" بدور هام في الكفاح، وجنّدت العديد من الطلاب الجامعيين وساهمت في حضور واستتباب مجموعات إضافية. وانتشرت في الأشهر الأولى من سنوات 2018 نداءات ضد الطرد أصدرها كُتّاب، قضائيون، أطباء، أخصائيون نفسيين، طيّارون، رجال دين ومشاركون في دورات ما قبل التجنيد العسكري وحركات شبيبة.

وكان لحضور الناجين من الكارثة النازية في الحملة ضد الطرد أهمية خاصة هذه المرّة أيضًا. لكن رغم هذا لم تستطع انتاج أثر كالأثر القوي الذي أحدثه توجّه رئيس "يَدْ فَشِم" قبل سنوات. تشهد هذه الحقيقة على التغيير نحو الأسوأ الذي حدث في المجتمع الإسرائيلي.

تحوّل وجود وحضور "جنوب تل أبيب ضد الضم" ليصبح مسارًا مركزيًا جرى حوله تطوّر النضال كلّه. وأيضًا المجموعات التي تبنّت في بداية النضال توجّهًا بعزل موضوع طالبي اللجوء عن كل مسألة أخرى في المجتمع الإسرائيلي، بما فيه العزل عن مشاكل جنوب تل أبيب، فهمت بعد المظاهرة المؤثرة في جنوب تل أبيب أن الأصوات التي علَت فيها مهمة أيضًا على المستوى القيَمي، وحيويّة لإنجاح النضال.

كلمات الخطيبات والخطباء في مظاهرة جنوب تل أبيب وكذلك رسائلهم الاجتماعية، كانت بارزة أيضًا في الاجتماع الجماهيري الكبير الذي جرى هذه المرة في ساحة رابين بتاريخ 24 آذار 2018. كان الحدث ثمرة للمشاركة بين "جنوب تل أبيب ضد الطرد" وبين مبادرة "نوقف الطرد". كسرنا للمرة الأولى وبعد سنوات المعادلة الكلاسيكية التي سرت في مسألة طالبي اللجوء، بأن "اليسار ضد الشعب". ونجحنا لأول مرّة بإنتاج معنى آخر لمصطلح "الشعب"، وأظهرنا أن في مركزه يوجد سكان الأحياء المستضعفة بالذات والتي تنتفض ضد أعمال التنكيل بالأقلية وإهمال الفئات الاجتماعية الفقيرة والواسعة. المعادلة السياسية الجديدة فعلت فعلها.

مسار طرد طالبي اللجوء هو من طبيعة الأمر مسار معقّد ومركّب تقف أمامه عوائق عديدة قضائية وسياسية في الأساس. وتواجدت في الحالة الإسرائيلية له صعوبات، بخصوصه على الصعيد العالمي، بما فيها الصعوبات مع أوغندا ورواندا، الدولتيْن اللتين كانتا الهدف للطرد. يتطلب التغلّب على هذه الصّعاب طاقة سياسية كبرى، أملَ نتنياهو بتجنيدها من الفهم الكلاسيكي بأن "اليسار ضد الشعب". وعندما تفتّتَت هذه المعادلة ظهر عجز كبير في الطاقة وعلق المسار ولم تجد السلطة القوّة للتجنيد وللضغط من هذا المكان والمفهوم.

كانت هذه هي الخلفية لتغيير الاتّجاه الذي أعلن عنه نتنياهو ووزير الداخلية أرييه درعي في المؤتمر الصحفي المفاجئ الذي عقداه بتاريخ 2.4.2018. أعلنّا فيه عن منح وضع قانوني للذين يتم استيعابهم من طالبي اللجوء، وعن مسيرة متشابكة: اتفاق من جهة مع الأمم المتحدة على توزيع استيعاب طالبي اللجوء في دول غربية وفي أنحاء البلاد مع إعطاء مركز قانوني للذين يتم استيعابهم، والقيام من جهة أخرى بإصلاح وتحسين أحياء جنوب تل أبيب بمساعدة النقود التي سيتم توفيرها من حملة الطرد الإجباري الذي سيتم إبطاله.

ظهر للحظة أن نضالنا نجح حقًا بإحداث التغيير الذي أردناه. ولكن الواقع جسّد محدودية لمقدرتنا. ومثلما أثار قرار الطرد عملًا جماهيريًا كبيرًا ضد المعارضين، كذلك أثار المخطط الجديد الذي جرى طرحه ردود فعل لدى الطرف الثاني. كانت أجوبة اليمين على هذا المخطط قاسية جدًا. أتت تلك الأجوبة من مجموعات مؤيدي الطرد في جنوب تل أبيب وأيضًا من مقاعد الحكومة والائتلاف، وخنعت قوّة الغضب في وسائل التواصل الاجتماعي نتنياهو الذي أسرع للتفكير في المسار الذي يجب اتّخاذه من جديد، وأبطلَ كل المخطط. ومن وجهة نظره كان تصرّفه هذا "إعادة نظر".

تختلط النتائج المتوسّطة لهذه المسألة. من ناحية المكسب جرى منع الطّرد لدول في أفريقيا الذي كان من الممكن أن يُشكّل خطرًا على طالبي اللجوء. ومن ناحية الفشل، جرى منع التّقدم نحو حل ضائقة طالبي اللجوء وأحياء جنوب تل أبيب. وبمعنى مُعيّن عدنا إلى نقطة البداية. وبخصوص قضايانا جسّدت هذه المسألة جيّدًا الصورة التي تظهر فيها استراتيجيّة النّضال للسيطرة. اللحظات التي نجحنا فيها بإدارة صراع الهيمنة كانت الأكثر أثرًا وفعاليّة. وعندما نجح الطّرف الآخر في استعادة ديناميكية الهيمنة ألقى بنا إلى الخلف.

لم يكن هذا المثال الوحيد عن نضال ناجح سجّل مكاسبًا في إسرائيل بعد أن دخل إلى مجال المواجهة على الهيمنة. إليكم أمثلة أخرى.

الاحتجاج الشرقيّ - من الأطراف إلى الهيمنة

يوجد في التّاريخ الاجتماعيّ الحقيقيّ لإسرائيل، ذكرى شرف خالدة لمساء احدى الأيّام في نهاية صيف 1980. اكتظّت يومها دار الثقافة في تل أبيب. لكن لم تمتلئ بنخبة عليا وأشكناز من شمال تل أبيب. الّا امتلأت القاعة بجماهير سكان أحياء الأطراف الشرقيين الذين اجتمعوا في ذاك المساء ليوم 30.8.1980 لتأسيس تنظيم قطري للأحياء في إسرائيل.

كان ذاك مساء هامًا أشّر إلى انتقال النّضال الشرقي من الأطراف إلى ساحة المواجهة من أجل الهيمنة. وكما هي المعالم التاريخية للأحداث، لم يكن ذاك المساء نهاية مرحلة أو عملية تنفيذ المشروع. ولكنه بالتأكيد وضّح الاتجاه، وأعطانا وجهة للتفكير والعمل بطريقة أخرى ستساعد مع عبور الأيام في تحقيق إنجازات لحركة الاحتجاج الشرقية.

كان الاجتماع في ذاك المساء خاصًا، ليس فقط بسبب موقعه في حصن أعضاء حزب"مباي" القدامى. كان خاصًا أيضًا في العنوان الذي أُعطي له: "إسرائيل هي أنا". هذا العنوان كان شاذًا في حينه. وإعلان الدعوة التي صممّها بروسبر بن حارش كانت عملًا مهنيّاً مدروسًا. هو وضع على رأس إطار أزرق شعار الدولة وملأ الصفحة في أسفل الإطار بقائمة مرصوصة بكل أسماء المؤسسات الرسمية للدولة. ونشرَ في الوسط حبرًا أسودًا ظهرت في أعلاه كتابة باللون الأبيض كتب فيها: "إسرائيل هي أنا". إنتشرت بقعة الحبر على قسم من أسماء المؤسسات وأخفتها، ولوّنت شذرات الحبر الأسود أسماء مؤسسات إضافية.

كانت الرسالة واضحة: إسرائيل ليست هي المؤسسة. إسرائيل الحقيقة هي نحن الأحياء وممثلوها. هذه هي رسالة الاجتماع لسكان الأحياء، التي آن الأوان للإجهار بها بصوت عالٍ. تعالوا لنضع النّضال الاجتماعي في المركز، ولنهتف من مركز المسرح القومي ومن على منصّته: "هذا المسرح لنا". تعالوا لنناضل من أجل الهيمنة في المجتمع. وبناءً عليه إسرائيل هي أنا.

شارك في الاجتماع عدة متكلّمين، والممثل يوسف شيلوح أداره بلياقة. أحدث تأثيرًا كبيرًا في الاجتماع ظهور الفرقة الغنائية "هبحيرا هطفعيت" (الخيار الطبيعي) التي جلبت نغمة جديدة للمسرح الموسيقي مرفقة بكلمات واضحة عن الاحتجاج الاجتماعي. وكانت القمة في ذاك المساء الإعلان عن تأسيس منظمة سقف لعموم الأحياء. قوبل هذا الإعلان بهتافات عالية من عموم آلاف الحاضرين.

جرت محاولة في مرحلة لاحقة لترجمة نجاح الاجتماع التأسيسي إلى تنظيم هام وذات تأثير. تمّ عقد اجتماع قطري تلخّص فيه بعد يوم طويل من المداولات ضرورة إقامة مبنى تنظيمي. وتم انتخاب مؤسسات له. ولكن بدلًا من أن تكون هذه حركة تترجم الطاقة وتحويلها إلى لغة الفعل كان ذاك حدث الخاتمة. لأن كل المسيرة انقطعت وتوقفت بسبب اقتراب انتخابات 1981، وقرار مجموعة كبيرة من مؤسسي "إسرائيل هي أنا" بأن الساحة الحزبية هي المكان الصحيح لاستثمار الطاقة للتغيير فيها.

اختار هؤلاء الرفاق ما كان بالإمكان رؤيته في حينه اختصارًا سحريًا للطريق – الانضمام لحزب أهرون أبو حتسيرا الجديد "تامي"، بدلًا من مواصلة التقدم على الطريق المعقد لبناء الحركة. هكذا وصلت إلى نهايتها تلك التجربة لبناء تنظيم سقف للأحياء.

حصلت "تامي" على ثلاثة نوّاب واندمجت في الجهاز السياسي. ولكنها لم تنجح في جلب طاقة جديدة وفي تجنيد مؤيدين جُدد، ما عدا هؤلاء الذين اندمجوا بصورة شخصية ومباشرة في السياسة الحزبية. وطبعًا لم تنجح "تامي" إحداث التغيير.

كنتُ ناشطًا في تنظيم اجتماع الانطلاقة في دار الثقافة وفي محاولة بناء منظمة سقف لمختلف القوى والمجموعات. لستُ شرقيًا، ولقائي مع المسألة الشرقية لا يعتمد على أصولي وإنما على التّاريخ الشخصي. كبرت والدتي في حيْ كيرم اليمني وعملت لسنوات حاضنة في حيْ هتكفا الموجود هو الآخر في جنوب تل أبيب. هذا الحيْ، مثله مثل حي كيرم لليمنيين وحي هتكفا، كان حصنًا لحزب الحيروت قبل أن أصبح الليكود الخيار القائد في أوساط الجمهور الشرقي في بلدات التطوير وأحياء الأطراف خارج المدن الكبرى.

قضيتُ عندما كنتُ ولدًا بعض الساعات والأيّام في بيت جدي الملاصق لبيت العمة أهوفا. وساعدتُ والدتي في العمل في المدرسة الصّيفية التي أقامتها في الحضانة في الفُرَص المدرسية. وخدمتُ في الجيش في قاعدة كانت الغالبية فيها من الشرقيين. لم يتم طرح الموضوع الشرقي بشكل علني على الطاولة. وتركّزت النقاشات السياسية على مسألة الصراع القومي والعلاقة مع العرب. ولكن من تحت الطبقات المكشوفة للنقاش تواجدت طبقة إضافية كان في مركزها غضب كبير لدى الذين تبادلنا الحديث معًا على حزب مباي وأتباعه. هم رأوا في مباي حزبًا متعاليًا عليهم ومتنكرًا لحقوقهم، وأنّ جميع الأشكنازيون يرتبطون به. كان اسم الحزب "معراخ" كلمة عار ومذمّة في أفواههم. وجرى توجيه وتحويل هذه المعارضة لحزب المعراخ إلى تأييد للحزب السياسي الخصم للمعراخ، لحزب الليكود في الأساس رغم أن غالبية قيادته أشكنازيون.

تبلْوَر عندي الفهم نهائيًا في أثناء خدمتي العسكرية بأن المسألة الشرقية، جرح مفتوح ليس بالإمكان تجاهله، وأيضًا من الممنوع فعل ذلك. وفهمتُ أن التعامل مع المسألة الشرقية أمر حيويّ وضروري لجهود إحداث التغيير في المجتمع الإسرائيلي. لذا عندما تحرّرتُ من الجيش وانتقلت إلى اورشليم لدراسة القانون في الجامعة العبرية لم أكتف بالانتماء إلى "كامبوس" – حركة الطلاب الجامعيين اليسارية اليهودية – العربية. ووجّهت جهدي السياسي في السنة الأولى من دراستي للقانون إلى إقامة تنظيم "حِتس - حفراه تسوديكت" (مجتمع عادل). "حتس" هي حركة لمجموعة طلاب جامعيين يتعلمون القانون، وتتركّز جهودهم في الجامعة وخارجها وفي المجتمع الإسرائيلي وفي الأحياء الشرقية في جنوب أورشليم على موضوع الفجوات والفروقات في المجتمع الإسرائيلي.

بحثت "حتس" في مرحلة لاحقة عن مشاركة مع حركات توجد عندها أهداف تشبه أهدافنا. لم تكن يومها حركة "الفهود السود" في قمتها. انضمّ القِسم المركزي فيها بقيادة تشارلي بيطون إلى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. كان هذا عملًا سياسيًا شجاعًا جدًا من جهة بيطون ومَنْ معه، ومن جهة الجبهة التي فهمت أن الوصل بينهما هام وذات دلالة. ولكن من جهة ثانية عزلَ هذا الانضمام شارلي بيطون ومجموعته عن التأثير الحقيقي على ما يجري في الأحياء. بمعنى آخر سارت هذه المجموعة بسرعة وإلى ُبعد أكثر من اللازم من استعداد بيئتها الإجتماعية لقبوله.

لذا اخترنا أفقًا مختلفًا للنشاط. أجرت "حِتس" إتصالات مع الجيل الثاني من التنظيمات التي نشأت في الأحياء بعد "الفهود" تحت اسم "الخِيَم" بقيادة يمين سويسا. نظّمنا معهم لقاءات ونشاطات مع التأكيد على أن المطلوب هو مواجهة المخطط الاجتماعي الذي يمس ويضرّ بالغالبية الكبرى في المجتمع، ولكنه يضرّ أكثر بكثير أبناء الأحياء الشرقيين بغالبيتهم.

اتحدَ مسار بناء "حِتس" كمجموعة طلاب جامعيين أورشليميين تشارك في نضالات الأحياء في أورشليم مع تنظيمات أخرى ظهرت في أماكن أخرى من البلاد، برزت من بينها بشكل خاص مجموعة "ألّه" (مواطنون من أجل الأحياء). وهي مجموعة شباب تأسست في حيْ هتكفا في تل أبيب. تنظّمت هذه المجموعة حول مسرح اجتماعي شارك فيه بعض أعضائها. هكذا وصلنا إلى دار الثقافة.

"إسرائيل هي أنا" تنظيم رسخ في التاريخ الإسرائيلي أقل بكثير من التنظيمات الاجتماعية الشرقية التي سبقته. تميّزت وحداته في محاولاتها لإدارة النضال بصورة أخرى، وللانتقال به من كونه احتجاجًا للأطراف، إلى جعله نضالًا على الهيمنة. ولكن من الواضح أنه اعتمدَ على تجربة وحِنكة المنظمات والنّضالات الهامّة السابقة التي رفعت حركة الاحتجاج الشرقية على المسرح الاجتماعي.

النّضال الشرقي من أجل المساواة، وضد كل مَظاهر القمع والظلم والتمييز هو نضال طويل السنوات، لا نقصد 

تلخيصه هنا. ولكن يجب القول، أنه جرى على مدى العديد من السنوات إقصاء وإخفاء موضوع الظلم والتمييز للشرقيين تحت السجّادة وإلى أطرف النقاش الاجتماعي. ظهرَ نجاح إقصاء المسألة الشرقية إلى الأطراف ليس فقط في نجاح اسكاتها لمدة طويلة، بل أيضًا في الجواب الفعّال والناجع للمؤسسة كلما انفجر الصراع خارجًا.

مثلًا، منذ الدورة البارزة الأولى لهذا الاحتجاج  (أحداث وادي الصليب في تموز 1959)، جرى تصويره وكأنه احتجاج "شعبي لمخالفي القانون والسّكارى". وتمّ وصف منظمة الفهود السود في بداية سنوات السبعينات بأشكال مشابهة: "انزلوا عن الأعشاب يا صعاليك زعران" – قال لهم تيدي كولك رئيس بلدية أورشليم عندما تظاهروا مقابل البلدية في الثالث من آذار عام 1971. "هؤلاء الشباب ليسوا لطيفين" – قالت عنهم رئيسة الحكومة غولدا مئير في مؤتمر اتّحاد القادمين من المغرب الذي عُقِد في 19 أيار من السنة نفسها.

هكذا كانت طريقة التّعامل الاعتياديّة مع فعاليّات الاحتجاج الشرقي. هاجمت المؤسسة السلطوية ووسائل الإعلام المحتجين بحدة وتعاملت معهم كأنهم جناة ومخالفي قانون، وكمجموعة هامشية لعصيان متمردين، يتم توجيهها وتفعيلها من جهة "عناصر يسارية معادية" بمختلف أشكالها.

نجح الفهود السود حقًا في وضع مسألة القمع والتمييز الطّائفي بكل مداها وأحكامها وممارساتها على أجندة الحديث الجماهيري، وحظوا بتأييد جماهيري بين الفئات الشعبية للشرقيين في البلاد، وفي أحياء وبلدات التطوير. ولكن الهجوم الإعلامي والمؤسساتي عليهم لم يتح لهم إمكانية الخروج من الدائرة المفروضة عليهم.

لم تنجح أيضًا محاولات الفهود السود في ترجمة وتحويل احتجاجهم إلى تنظيم حزبي. ونشطاء الفهود الذين انضموا إلى الجبهة (برئاسة تشارلي بيطون الذي أصبح عضو كنيست ممثّلا عن الجبهة في سنوات 1990-1980) والنشطاء الذين انضموا إلى قائمة شلي (برئاسة سعادية مرتسيانو الذي أصبح عضو كنيست عن شلي سنة 1980) لم ينجحوا في جلب دعم شرقي جديّ لتلك الأحزاب.

وجدت المقاومة الاحتجاجية الشرقية طرق ووسائل تعبير أخرى عن ذاتها. تغيّرت وأصبحت إحدى العوامل التي ساعدت على صعود الليكود واستلامه للسلطة في انتخابات 1977. استثمر الليكود بقيادة مناحم بيغن التواصل مع مشاعر الجمهور الشرقي في البلاد، ليس فقط من خلال دمج الأمور بسلطة مباي وظلمها واجحافها ، وإنما أيضًا من خلال الربط مع التوجهات الثقافية والتقاليد لدى القادمين من البلاد الشرقية. وإلى جانب هذا نفّذَ الليكود برئاسة بيغن أعمالًا سياسية كان الهدف منها، على الأقل من الناحية الرمزية، إصلاح الوضع الصعب في بلدات التطوير وأحياء الفقر. وكانت خطة العَلَم الاجتماعية لحكومة الليكود الأولى – مشروع ترميم وإعادة بناء الأحياء مسارًا مركزيًا في هذا الاتجاه.

دخول النضال الشرقي إلى حقل النضال من أجل الهيمنة، بدأ ربّما في "إسرائيل هي أنا"، لكنه لم ينته هناك. إذ بعد عشر سنوات وبالذات سنة 1990 أصبحت "شاس" الحامل والرافع المركزي للنضال الشرقي في المجتمع الإسرائيلي. وبدون الدخول إلى عُمق السؤال:" إلى أي حد دفعت "شاس" إلى الأمام مصالح الجمهور الشرقي؟"، بالإمكان القول بما يخص موضوعنا أنها بالتأكيد عملت حسب طُرُق نضال الهيمنة.

لم تعرض "شاس" ذاتها كفرقة تمثّل الأطراف المظلومة، وانما بالذات بصفتها تمثّل أكثر وافضل اليهودية نفسها. وأصبح شعارها "ارجاع المجد إلى ما كان عليه في الماضي" تعبيرًا بطريقة أخرى عن فكرة الهيمنة نفسها في شعار "إسرائيل هي أنا" – أيْ نحن القصة الحقيقة والمركزية والمهمة وذات التأثير في المجتمع الإسرائيلي. أضف إلى هذا أن شاس لم تعرض ذاتها كحزب برلماني فقط، وإنما كحركة واسعة داخل الكنيست، وتعمل لبناء شبكات عمل في المجتمع المدني. مثلًا جهاز تعليم من حضانات الاطفال إلى المدارس، ووسائل إعلام تعبّر عن مواقفها، ومؤسسات دعم للأشخاص في ضائقة.

الصعيد الآخر الذي نشطت فيه شاس هو الساحة القضائية. هنا برزت أعمال ونشاطات "القوس الديمقراطي الشرقي" لمجموعة مثقفين ونشيطين وضعوا لأنفسهم هدف تغيير الحديث، وتحدي التقسيم غير العادل للموارد وتغيير تعامل المجتمع في مجموعة مواضيع من خلال تبنّي نقطة انطلاق النظرة الشرقية. وأحد مكاسب شاس في الكنيست كان بحث موضوع "عدالة التقسيم" ووصوله إلى الحديث الجماهيري في إسرائيل. وذلك في أعقاب قرار محكمة العدل العليا بخصوص الأراضي، وشكل تقسيم توزيعها في إسرائيل.

تُجرى في العِقد الأخير نضالات شرقية إضافية وهامّة، في الأساس في المجال الثقافي – الفني هذه المرّة، وعلى صعيد المصداقية والحقائق التاريخية. ونجحت مجموعة مبدعي "مهد الفن الشعري" في بناء مكانة لها على السّاحة الثقافية إلى جانب الظهور في وسائل الإعلام. وكذلك الأمر بخصوص الصراع على مكانة الموسيقى الشرقية التي جرى دفعها وتقديمها من قِبل مبدعين شرقيين وأيضًا من خلال مبادرة الفرقة الموسيقية الأندلسية. أدّى كل هذا إلى حدوث تغيير جدّي في إسماع هذا "الجنر" (النوع الموسيقي) في وسائل الإعلام المختلفة. ومجموعة "عمرام"، التي تطالب بالتحقيق وتحمّل المسؤولية من قِبَل الدولة على أطفال اليمن، لشّرق والبلقان، نجحت في طرح قضية الأطفال على مركز المنصّة الجماهيرية رغم أنه كان قد جرى إسكات واخفاء لهذه المسألة على مدى سنوات عديدة.

ولتلخيص هذا الموضوع بالإمكان رؤية أن النّضال الشرقي على مدى سنواته، نجح في تغيير بوصلة التوجّه لمحاولة جعل القضيّة الشّرقيّة كقضيّة جانبيّة وهامشيّة مبعدة ومحشورة في الزاوية وغير شرعية، ووضعها في قلب الأجندة اليومية للمجتمع الإسرائيلي. وسجّل نجاحات، حتى لو جزئية، حيثُ حسّنت قليلًا من عدم المساواة الطّائفية في المجتمع الإسرائيلي.

ترجمة: سميح غنادري

لشراء الكتاب بسعر مخفّض اضغطوا على الرابط وادخلوا الرقم5221